صباااحكم / مساااكم ورد
السويد- دنيا الوطن-ايهاب سليم وقفَ عالم الأثار الأيطالي الشاب باولو ماتييه في صيف سنة 1962 في السهول الواقعة شمال غرب سورية وبدأ يقوم بمسح ميداني لتلك المنطقة, ولم يكن هذا العالم وبرفسور علم الأثار وتاريخ الفن في الشرق الأدنى القديم بجامعة روما لاسابينزا الشهيرة في أوروبا واثقاً مما أذا كانَ سيحقق أي أكتشاف أثري, لاسيما وأن الداخل السوري كانَ يُعتبر منطقة فقيرة بالأثار وهو لم يتجاوز 22 عاماً, لكن الحفريات التي بدأها بعد سنتين في تل مرديخ على بعد نحو 60 كم جنوب حلب, أدت الى ما أعتبره كثيرون "أهم أكتشاف أثري شهده القرن العشرون".
أكدت النقوش القديمة وجود مدينة أسمها إبلا, لكن أحدا لم يعرف تحت أي تل من التلال الكثيرة الموزعة في أرجاء الشرق الأوسط كانت تقع هذه المدينة, فقد وردَ ذكرها أول مرة في وثائق تروي قصة أنتصار الملك سرجون الأكدي مؤسس الأمبراطورية الأكدية (2340-2284 ق.م) على ماري ويارموتي وإبلا.
وأتى الملك السومري جوديا في نقش أخر على ذكر الخشب القيم الذي حصلَ عليه من جبال إبلا, كما ظهرَ أسم هذه المدينة في معبد الكرنك بمصر ضمن لائحة بأسماء مُدن قديمة غزاها الفرعون تحتمس الثالث.
وذكرت وثيقة دوّنها مُحاربون صليبيون قدماء كانوا في طريقهم الى القدس سنة 1098 م, المكان الذي كانت قائمة فيه مدينة إبلا, وقالوا أن هذا المكان هو مركز عسكري يقع بعيداً في الريف ويُدعى مرديخ.
كُل ذلك دفعَ بعلماء الأثار الى محاولة العثور على مدينة إبلا, وفي النهاية أثمرت جهودهم, ففي سنة 1968, عُثرَ على قسم من تمثال من البازلت لـ إيبيت-ليم أحد ملوك إبلا, وقدّ دلّ النذر المحفور عليه باللغة الأكدية أنه كُرّس للالهة عشتار التي تألقت في إبلا, وهكذا بدأت الأكتشافات الأثرية تكشف للعالم لغة جديدة, تاريخاً جديداً, وحضارة جديدة.
وفي سنة 1974-1975, تأكدّ العلماء أن مدينة إبلا القديمة كانت تقع على تل مرديخ بعدما عثروا على لوحات مسمارية تكرّر فيها ذكر هذا الأسم القديم, وأظهرت الحفريات أيضاً أن إبلا كانت قائمة في هذا الموقع خلال حقبتين تاريخيتين على الأقل, فبعد أن قويت هذه المدينة وأزدادَ نفوذها دُمرت, ثم أعيدَ بناؤها لتُدمر مرة أخرى وتصبح مدينة مفقودة تائهة عبر أحقاب الزمان.
بُنيت أقدم المدن في السهول الطميية, كالسهل الممتد بين نهري دجلة والفرات, اذ أمكنَ أستغلال هذه السهول بأعتماد أسلوب الزراعة الكثيفة, فأولى المدن كانت تقع في بلاد ما بين النهرين, وعلى ما يبدو أن أسم إبلا يعني الصخرة البيضاء, وهو أشارة الى الأرض الصخرية الكلسية التي أقيمت عليها المدينة, وقد أختير هذا الموقع, كما يتبيّن, لأن الطبقة الكلسية تضمن وجود مخزون طبيعي من المياه, أمر بالغ الأهمية في منطقة بعيدة عن الأنهار الكبرى.
وبما أن مُعدل تساقط الأمطار في إبلا كانَ محدوداً جداً, أقتصرت الزراعة الواسعة فيها على الحبوب والكروم والزيتون, وكانت تلك المنطقة مُلائمة أيضاً لتربية المواشي, وخصوصاً الخراف, كما أزدهرت فيها تجارة الأخشاب والأحجار الشبه كريمة والمعادن, نظراً الى موقعها الأستراتيجي بين سهل بلاد ما بين النهرين وسهل البحر الأبيض المتوسط, وقد بسطت هذه المدينة سيطرتها على منطقة بلغَ عدد سكانها نحو 200,000 ألف نسمة, عاش حوالي عشرة في المئة منهم في العاصمة.
يقف بقايا قصر إبلا الكبير شاهداً على عظمة تلك الحقبة من الحضارة الإبلائية, فلدخول القصر كانَ على السكان عبور بوابة تراوح أرتفاعها بين 12 و15 متراً, وقد وُسع هذا القصر على مر الزمن لكي يتلائم مع حاجات الطبقة الحاكمة التي أزدادت قوة يوماً بعد يوم, وكان نظام الحُكم في إبلا نظاماً تسلسلياً مُعقداً, فقد عينَ الملك والملكة عدد من القُضاة والأباء في أدارة شؤون البلاد.
وعُثرَ في تل مرديخ على أكثر من 17,000 ألف لوحة طينية أو أجزاء من لوحات طينية, ويُرجح أنها كانت تؤلف في الأساس أكثر من 4,000 ألاف لوحة كاملة وُضعت بعناية على رفوف خشبية, وقد أظهرت هذه الوثائق مدى أتساع العمليات التجارية التي قام بها أهل المدينة, فقد أقاموا على سبيل المثال علاقات تجارية مع مصر كما يدلّ رمزان ملكيان لأثنين من الفراعنة أكتُشفا في تلك المنطقة.
وكُتبت مُعظم هذه اللوحات باللغة المسمارية السومرية, لكن بعضها أحتوى نصوصاً باللغة الإبلائية, وهي لغة قديمة جداً تمكن العلماء من فك رموزها بفضل هذه الوثائق, وقد ذُهل المستشرقون من أكتشاف مثل هذه اللغة القديمة, ولا شك أن عدداً من اللوحات ضم قوائم دُونت باللغتين السومرية والإبلائية, ويدعو كتاب إبلا-منشأ الحضارة المدينية "باللغتين الأيطالية والأنجليزية"- هذه اللوحات "أقدم المعاجم اللغوية على الأطلاق".
كانت إبلا على ما يتضح قوة عسكرية لا يُستهان بها, فقد ظهرت في نقوش بعض القطع الأثرية صورٌ لمحاربين إبلائيين يعدمون أعداءهم أو يحملون رؤوسهم المقطوعة, مع ذلك أفلَ نجم إبلا عندما بدأت أشور وبابل تزدادان قوة وعظمة, ويبدو أن سرجون الأول وبعده حفيده نرام سين هاجما إبلا, وقد أظهرت الأدلة الأثرية أن القتال كانَ ضارياً والغارات عنيفة.
وكما وردَ أعيدَ بناء هذه المدينة, حتى أنها صارت أحدى المُدن المهمة في المنطقة, وقد شُيدت إبلا الجديدة وفق تصميم محدد زادَ من عظمتها, كما أقيمت في المدينة المُنخفضة منطقة مقدسة كُرست للألهة عشتار, التي كانت أيضاً الهة الخصب عند البابليين, وكذلك ضمت إبلا مبنى مُهيباً أستخدمَ على ما يبدو لأيواء الأسود المُكرسة لهذه الألهة.
يُرجح علماء الأثار أن مدينة إبلا زالت من الوجود ودُمرت نهائياً نحو سنة 1600 ق.م عندما وجه اليها الحثيون ضربة قاضية, وتصف أحدى القصائد القديمة نهاية هذه المدينة التي شكّلت في السابق قوة عظيمة, قائلة: "تحطمت إبلا كما لو أنها أناء من خزف", وهكذا بدأ ذكرها يضمحل تدريجياً حتى فُقدت وعادت من جديد.