[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
قصتنا هذه يمكن أن تكون غريبةً على مسامعك...
لكنها حقيقةٌ قصَّها علينا ابن السيد محمد أمين وذلك عندما كان هذا الابن في العاشرة من العمر... خرج يومها مع والده لحضور دعوةٍ ضمَّت كبارَ المسؤولين آنذاك والأغنياء في دمشق.
كان السيد محمد أمين وأخوهُ الجنرال سليم بك الذي قَدِمَ من استنبول زائراً أخاه في دمشق قد دُعيا لحضور ذلك الحفل...
وحين قصَّها ابنُ السيد محمد أمين وعاد له استغرابه وذهوله لِمَا حدث أمَامه يومَها، إذ ما يزال بعد مضيِّ أكثر من ستين سنةٍ على الحادثة... مستغرباً ومتذكِّراً ما حدث.
مقدمة:
حقيقة منذ سنوات كثيرة بدت ظاهرة غريبة بين أقلِّية من الناس وهي اهتمامهم بالسحرة ومتابعتهم ومشاهدةِ أفانينهِم... ألاعيبه وتخييلاته أمامهم فتراه أحياناً يخرجُ طيوراً كثيرة من جيبه فتطير في السماء، أو يُخرِجُ من فمه ليرات ذهبٍ أو... أو... بيض دجاج... الخ...
من هذه التخييلات والخيالات التي لا تمتُّ لعالَم الحقيقة بصلة، بل كلُّها خيالات وتخييلات يستعين الساحرُ بعالَمِ نفوس الشياطينِ من الجنِّ ليُخيِّل أمام أعينِ الناس ما يخيِّله.
{...يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} سورة طه (66).
ولو كان هناك شيءٌ يتعدَّى الخيال للحقيقة لما احتاج الساحرُ أن يتسوَّل المال من الناس بعد إنهائه عروضه، إذ أين ذهبت كلُّ تلك الليراتِ الذهبية التي أخرجها من فمه أثناء العرض حتى أصبح بنهاية العرض بحاجة للَّيرات الورقية من الناس يتسوَّلها منهم تسوُّلاً؟
حلقتنا... بينما كان يجلس إنسانُنا السيد محمد أمين... وأخوه الجنرال سليم وبينهما الطفل الصغير ذو العاشرة من العمر... ابن إنساننا السيد محمد أمين، وكان هناك عدد من كبارِ المسؤولين والضباطِ والأغنياء في تلك الدعوة، وطبعاً كالعادة بذاك الزمان وخصوصاً في مثل هذه الدعوة التي يحضرها الأثرياءُ... يأتي ساحرٌ كبير معروفٌ على مستوى الشرقِ الأوسط ليس سوريَّ الأصل... لعلَّ الكبارَ الآن يذكرونه إن ذُكِّروا به فقد ذاع صيتُه وانتشر بالشام لكثرة أفانينه وألاعيبه الخيالية (كان لقب ذاك الساحر الحاوي أو الجاوي).
وبالفعل... ما هي إلاَّ مدةٌ زمنية قصيرة حتى حضر هذا الساحرُ... رآه جميعُ المدعوِّين فخاطبه بعضُهم: ماذا ستقدِّم لنا اليوم أيها (العالم المغناطيسي)؟
فقال: كلُّ واحدٍ منكم يخرج ليرةً ذهبية ولْيضعْها بكفِّه ويُطْبِق على يده عليها بكلِّ ما أوتيَ من قوَّةٍ وعزم يتمسَّكُ بها وضمْن قبضتهِ وأنا سأقرأ على يده لأفتحَها بدون أن ألْمسها، فإن فتحتُها أخذت الليرة الذهبية لي، فهل أنتم موافقون؟
ردَّ معظمُهم: موافقون... فهم يريدون أن يضيِّعوا وقتهم ويقضوه باللهو واللعب ورؤية الغرائب والعجائب التي لا يعرفون سرَّها لمجرّد التسلية.
هنالك مدَّ أحدُ كبار الأغنياء يده إلى جيبه فأخرج ليرةً ذهبية ووضعها بيده وأطْبَقَ عليها متمسِّكاً بها بقوَّةٍ داخلَ قبضته، اقترب الساحرُ منه ووقف أمام يده وبدأ بحركاته وتَمْتَمَاته، وما هي إلاَّ لحظات... حتى شاهد الجميعُ... كيف بدأت يد المتحدِّي تنفتح وبذاتها...
فبدأ يشدُّ بيده بكل ما أُوتيَ من قوَّةٍ محاولاً إبقاءها مطبقة ممانعاً فتحها، ولكن لا فائدة فما تزال يده تُفْتَح بطريقة سحرية غامضة وكأن هنالك عدداً من الأشخاص قد أمسكوها وبدؤوا يفتحونها.
لكن الغنيَّ أخذ يقاومُ ويشدُّ محاولاً ممانعة فتْحها وللأسف فما تزال تُفْتَح وببطء... ذُهل الحضور لِمَا رأَوْا وكان أكثرهُم ذهولاً ذلك الضحيَّة الذي يحاول ممانعاً فتحَ يدِه... ولكن لا فائدة... فقد فُتحت يده قسراً وجبراً عنه فاستسلم للأمر الواقع... عندها مدَّ الساحرُ المحتال يدَه وتناول ليرة الذهب (ولعابه يسيل) ليضعها بجيبه... إذاً لقد كسبَ الجولَة الأولى... وسيكسبُ اليوم الكثيرَ الكثيرَ... وبسحره الخبيث ولعبته الماكرة.
إنها سرقة برخصة... وبأسلوب جديد (سرقة... علنية) متَّفقٌ عليها.
انتهى المتحدي الأول... وجاء الآن دورُ الثاني... إنه أغنى رجلٍ بالشام في ذلك العصر، فهو يملك عدداً من المصانع في دُولٍ أجنبية... عدّة مثل تركيا... إيطاليا... فرنسا... سويسرا.
أخرج ليرةً ذهبية ووضعها براحةِ كفِّه وأطبق عليها قبضتهُ بقوَّةٍ كبيرة معتزّاً بضخامةِ جسمه وقوَّة عضَلاته، شدَّ يده بكلِّ ما أوتيَ من قوَّة حتى ظهرت عروقُ يدِه بارزة، وانتفخت عضلاتُه ظاهرةً، اقترب الساحرُ... من يدِ ذلك الرجلِ وبدأ بحركاتٍ وتمتماتٍ غامضة... وما هي إلا لحظاتٍ حتى بدأت اليدُ المُطْبَقَة تُفْتح شيئاً فشيئاً... وكأنما هنالك قوَّةٌ خفية عن الأنظار لكنَّها موجودةٌ تفتح هذه اليد مُتغلِّبةً على قوَّةِ شدِّ صاحبِها الكبيرة... فقد بدأ يشدُّ معتصراً قواهُ عساه يُقاوم القوَّة الخفيَّةَ التي ما تزال تُجبِر يده على الانفتاح.
وللأسف فقد احتقن وجهُه... ومن المؤكد أنها ارتفعت درجةُ حرارته من شدَّة ما شدَّ... بقبضته.
وبدأ التعب يتسلَّل إليه... ولا فائدة فما نجح، بل فشل وفُتحت يدُه كاملةً منبسطة وبدت ليرة... الذهب... ظاهرةً.
هنالك مدَّ اللصُّ المتحدي يدَه فتناولها ليضعها مبتسماً ابتسامةً مِلْؤها المكر بعيون مظلمةٍ كسواد الليل البهيم، نظرات حادَّة... إنها ثاني ليرة ذهبية يكسبها.
السيد محمد أمين كان يَرْقب الوضع تماماً مدركاً بإيمانه العميق بالله سرَّ عمل ذلك الساحر... عالماً أن لا سلطان له إلا على مستحقٍّ بعيدٍ عن الله، فلو كان الإنسانُ ملتجئاً بحقٍ لله وعائذاً به لما كان له سلطان عليه...
هنالك وقبل أن يمدَّ الثالثُ يده إلى جيبهِ ليقع بيد هذا اللصِّ الماكر كما وقع من قبله اثنان وبالتالي... سيتابع جولتَه على الجميع... واحداً تلْوَ الآخر.
فهذا ما تمَّ الاتفاق عليه... لكن السيد محمد أمين أبى أن يُكمل هذا الخبيثُ دورته على الجميع ويسلبهم ليراتِ الذهب بما لا يرضى به الضمير الحرّ.
بل توجَّه قائلاً: هلمَّ إليَّ فأنا أقبل تحديك، تعالَ أتحداك... هنالك وأمام كل الحضور ترك الشخصَ الذي آل إليه الدورُ ومشى باتِّجاه السيد محمد أمين يتبخترُ... مفتخراً... وكلُّه ثقة بأن النصر حليفهُ مدركاً تماماً أن المؤمنين الحقيقيين بهذا الزمان مفقودون: وإذا ما خلا الجبانُ بأرضٍ طلب الطعن وحده والنزال.
هنالك وقف أمام السيد محمد أمين الذي قال له: سأقبل بمواجهتك وأقبل تحديك ولكن لي شرط واحد: إذا فتحتَ يدي وأخذتَ الليرة سأعطيك من بعدها عَشر ليرات ذهبية أخرى بالإضافة لتلك، وإن لم تستطع فطلبي منك أن تتوب عن هذه الأعمال فهذا السحر لا يزيدك إلاَّ كفراً وشقاءً وبُعداً عن الله... فهل أنت موافق؟
ردَّ الساحر وبكل ثقة فالطمع والشرَهُ بإحدى عشرة ليرة أعمى قلبَه... (رزقة موفقة) بهذا اليوم ولربما يحتاج أشهراً ليجمعها.
أما الجنرال سليم أخو السيد محمد أمين فقد تفاجأ بما سمع من أخيه... ولمشاهدته ما رأى بأم عينه ما حدث مع الاثنين السابقين... إذاً لا بد وأن يخسر أخوه إحدى عشرة ليرة ذهبية! بدل الليرة الذهبية الواحدة!
فلماذا يتورَّطُ بهذه اللعبة، مالَه ومالَها... حاولَ أن يثنيه عن ذلك، إذ دفعه بيده خِفْيةً معبِّراً عن نصيحته: أنْ مالَكَ ومالَهُ لتخسرَ الآن إحدى عشرة ليرة ذهبية!
أما الغلام ابنُ السيد محمد أمين (صلاحُ الدين) الذي كان يجلس بين عمه وأبيه فقد أحسَّ بحركات عمِّه المنبِّهة لوالده محاولاً أن يثنيه عن إقدامه على هذا التحدِّي.
أما السيد محمد أمين فلم يُعِرْ أدنى اهتمام لطلب أخيهِ، بل أخرج ليرةً ذهبية... (قديماً (بذاك الزمان) الليرة الذهبية تُعتبر عملة متداولة ومعظم الناس يحملونها).
هنالك هدأ الأخ الجنرال سليم رغماً عنه والتزم الصمتَ والسكون مراقباً أخاه الذي وضع الليرة وأطبقها بشكل طبيعي... اقترب الساحرُ... لقبالتِه وبدأ الهجومَ بحركاته وتمْتماته... والغريب أن الوضع بقي كما هو فَيدُ السيد محمد أمين ما تزال مطبقةً بشكل طبيعي وبقوَّة والساحرُ... ما يزال يتمتمُ ويُشير بيديه بحركاتٍ مختلفة... طال الوقتُ بالساحر ولم يتغير شيءٌ بالوضع فما يزال كما هو... وما زال يحاول ويحاول ويتمتم ويتحرَّكُ ويحرِّكُ يديه بإشارات وحركات ولكن لا جدوى.
لم يفقد الأملَ قُرابةَ الثلث ساعة، حيث بدأ التعب والإنهاك يأخذ منه كل مأْخذٍ (فما شاهده الغلام صلاح الدين والذي لا يزال يذكره الآن بأنَّ عرقَ الساحرِ المُقْرِف ذا الرائحة النتنة... قد سال من كل أنحاء وجهه فبلل ذقنَه... وسالَ إلى الأرض قطراتٍ... قطرات).
حاول بكلِّ علمه ومهارته... فلم يستطع أن ينجز عمله في هذه المرَّة حتى إنَّه بدأ ينظر من النافذةِ... إلى البابِ... إلى النافذةِ ينظر نظراتِ المستغيث! المَدَدَ! بمن يستغيث!! وممَّن يطلب المعونة؟ تمتم باضطرابٍ بكلمات مُبْهمةٍ... غريبة واضطربت حركاتُه وبدا كأن الخوف قد ملأ قلبَه...
أما السيد محمد أمين وبكل ارتياح واطمئنان... فقد بقي جالساً بمكانه مُطْبِقاً مشرقاً وجهُه.
هنالك لم يعد الساحرُ ليحْتمل الوضع فانفجر صارخاً قائلاً للسيد محمد أمين:
أنت (يا بك) حامل اسم.
فردَّ عليه السيد محمد أمين بقوَّةٍ وبصوت أعلى وأقوى من صوتِ الساحر:
أنا حامل اسم (الله)... جلجلت كلماته بالمكان وتردَّد صداها الرهيب... فخيَّم الصمت على جميع الحضور ممزوجاً بالدهشة والذهول...
لقد فشل الساحرُ...وأيَّ فشلٍ!! إنه فشلٌ كبير، فلقد بلَّلَه عرقُه وأُثيرت أعصابُه وغلت مراجلُ نيران قلبه وبدون فائدة جناها... لقد خسر الجولة...
عندما سمع تلك الكلمات التي وقعت على مسامعه كالرعد القاصف والتي اكتسحت شرورَه وباطلَه صمت ولم يفتح فمه بكلمة بعدها أبداً، بل ترك المجلس وسار مذلولاً حقيراً يجرُّ أذيالَ خيبته وخسارتِه الكبرى...
فلقد استقرَّت في نفسه فكرة وأدرك أمراً...!!
إن هذا الإنسان غريب السِرِّ، ذلك مبلغه من العلم.
مرةً ثانية كان اللقاءُ بمنطقةٍ تابعة لدمشق إنها منتزه رائع هو منتزه الربوة... تمَّ ذلك أيضاً بدعوةٍ حضرها المسؤولون والأغنياء وكان من جملة المدعوين إنسانُنا الفاضل السيد محمد أمين.
قَدِم الساحرُ وكعادته فتفاجأ بوجوده... فاندحر باطله وشرُّه أمام الحق وبات ذليلاً مهموماً... إذ لن يستطيع اليوم أن ينفِّذ أحابيله وسحره.
فجاء راجياً ذليلاً قائلاً: (يا بك) كرامة لله حبيبك اتركني أعمل... اتركني أترزَّق... يا بك انظر إلى كل الحضور فرداً فرداً فهل في أحدهم ذرَّةُ خير... كلّهم بعيدون عن الله وقرينهم الشيطان... فاتركني وشأني معهم.
لكن السيد محمد أمين لم يُعِرْهُ اهتمامَه ولم يعبأْ بكلامه... فالساحر يريد منه أن يترك المجلس كي يستطيع أن يأتي بسحره أمام الناس...
نظر السيد محمد أمين إلى الحضور فأحسَّ أن الجميع يرغبون بالساحر، إنهم يريدون أن يضحكوا ويستمتعوا بتلك الألاعيب السحرية، عندها قال بنفسه: إذا كان الكلُّ يريدون الساحر (سأدعهم وشأنهم). وتركهم مغادراً...
وهكذا كلما رأى الساحر السيد محمد أمين في مجلس أيقن بفشله فهرب ليأتي إليه متوسِّلاً راجياً منه المغادرة إذا كان المجلس ميالاً للفجور كي يخيِّل بأعماله فيسحر أعين الناس ويؤذيهم
بالخفاء وليكسب المال بالحرام.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
لكنها حقيقةٌ قصَّها علينا ابن السيد محمد أمين وذلك عندما كان هذا الابن في العاشرة من العمر... خرج يومها مع والده لحضور دعوةٍ ضمَّت كبارَ المسؤولين آنذاك والأغنياء في دمشق.
كان السيد محمد أمين وأخوهُ الجنرال سليم بك الذي قَدِمَ من استنبول زائراً أخاه في دمشق قد دُعيا لحضور ذلك الحفل...
وحين قصَّها ابنُ السيد محمد أمين وعاد له استغرابه وذهوله لِمَا حدث أمَامه يومَها، إذ ما يزال بعد مضيِّ أكثر من ستين سنةٍ على الحادثة... مستغرباً ومتذكِّراً ما حدث.
مقدمة:
حقيقة منذ سنوات كثيرة بدت ظاهرة غريبة بين أقلِّية من الناس وهي اهتمامهم بالسحرة ومتابعتهم ومشاهدةِ أفانينهِم... ألاعيبه وتخييلاته أمامهم فتراه أحياناً يخرجُ طيوراً كثيرة من جيبه فتطير في السماء، أو يُخرِجُ من فمه ليرات ذهبٍ أو... أو... بيض دجاج... الخ...
من هذه التخييلات والخيالات التي لا تمتُّ لعالَم الحقيقة بصلة، بل كلُّها خيالات وتخييلات يستعين الساحرُ بعالَمِ نفوس الشياطينِ من الجنِّ ليُخيِّل أمام أعينِ الناس ما يخيِّله.
{...يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} سورة طه (66).
ولو كان هناك شيءٌ يتعدَّى الخيال للحقيقة لما احتاج الساحرُ أن يتسوَّل المال من الناس بعد إنهائه عروضه، إذ أين ذهبت كلُّ تلك الليراتِ الذهبية التي أخرجها من فمه أثناء العرض حتى أصبح بنهاية العرض بحاجة للَّيرات الورقية من الناس يتسوَّلها منهم تسوُّلاً؟
حلقتنا... بينما كان يجلس إنسانُنا السيد محمد أمين... وأخوه الجنرال سليم وبينهما الطفل الصغير ذو العاشرة من العمر... ابن إنساننا السيد محمد أمين، وكان هناك عدد من كبارِ المسؤولين والضباطِ والأغنياء في تلك الدعوة، وطبعاً كالعادة بذاك الزمان وخصوصاً في مثل هذه الدعوة التي يحضرها الأثرياءُ... يأتي ساحرٌ كبير معروفٌ على مستوى الشرقِ الأوسط ليس سوريَّ الأصل... لعلَّ الكبارَ الآن يذكرونه إن ذُكِّروا به فقد ذاع صيتُه وانتشر بالشام لكثرة أفانينه وألاعيبه الخيالية (كان لقب ذاك الساحر الحاوي أو الجاوي).
وبالفعل... ما هي إلاَّ مدةٌ زمنية قصيرة حتى حضر هذا الساحرُ... رآه جميعُ المدعوِّين فخاطبه بعضُهم: ماذا ستقدِّم لنا اليوم أيها (العالم المغناطيسي)؟
فقال: كلُّ واحدٍ منكم يخرج ليرةً ذهبية ولْيضعْها بكفِّه ويُطْبِق على يده عليها بكلِّ ما أوتيَ من قوَّةٍ وعزم يتمسَّكُ بها وضمْن قبضتهِ وأنا سأقرأ على يده لأفتحَها بدون أن ألْمسها، فإن فتحتُها أخذت الليرة الذهبية لي، فهل أنتم موافقون؟
ردَّ معظمُهم: موافقون... فهم يريدون أن يضيِّعوا وقتهم ويقضوه باللهو واللعب ورؤية الغرائب والعجائب التي لا يعرفون سرَّها لمجرّد التسلية.
هنالك مدَّ أحدُ كبار الأغنياء يده إلى جيبه فأخرج ليرةً ذهبية ووضعها بيده وأطْبَقَ عليها متمسِّكاً بها بقوَّةٍ داخلَ قبضته، اقترب الساحرُ منه ووقف أمام يده وبدأ بحركاته وتَمْتَمَاته، وما هي إلاَّ لحظات... حتى شاهد الجميعُ... كيف بدأت يد المتحدِّي تنفتح وبذاتها...
فبدأ يشدُّ بيده بكل ما أُوتيَ من قوَّةٍ محاولاً إبقاءها مطبقة ممانعاً فتحها، ولكن لا فائدة فما تزال يده تُفْتَح بطريقة سحرية غامضة وكأن هنالك عدداً من الأشخاص قد أمسكوها وبدؤوا يفتحونها.
لكن الغنيَّ أخذ يقاومُ ويشدُّ محاولاً ممانعة فتْحها وللأسف فما تزال تُفْتَح وببطء... ذُهل الحضور لِمَا رأَوْا وكان أكثرهُم ذهولاً ذلك الضحيَّة الذي يحاول ممانعاً فتحَ يدِه... ولكن لا فائدة... فقد فُتحت يده قسراً وجبراً عنه فاستسلم للأمر الواقع... عندها مدَّ الساحرُ المحتال يدَه وتناول ليرة الذهب (ولعابه يسيل) ليضعها بجيبه... إذاً لقد كسبَ الجولَة الأولى... وسيكسبُ اليوم الكثيرَ الكثيرَ... وبسحره الخبيث ولعبته الماكرة.
إنها سرقة برخصة... وبأسلوب جديد (سرقة... علنية) متَّفقٌ عليها.
انتهى المتحدي الأول... وجاء الآن دورُ الثاني... إنه أغنى رجلٍ بالشام في ذلك العصر، فهو يملك عدداً من المصانع في دُولٍ أجنبية... عدّة مثل تركيا... إيطاليا... فرنسا... سويسرا.
أخرج ليرةً ذهبية ووضعها براحةِ كفِّه وأطبق عليها قبضتهُ بقوَّةٍ كبيرة معتزّاً بضخامةِ جسمه وقوَّة عضَلاته، شدَّ يده بكلِّ ما أوتيَ من قوَّة حتى ظهرت عروقُ يدِه بارزة، وانتفخت عضلاتُه ظاهرةً، اقترب الساحرُ... من يدِ ذلك الرجلِ وبدأ بحركاتٍ وتمتماتٍ غامضة... وما هي إلا لحظاتٍ حتى بدأت اليدُ المُطْبَقَة تُفْتح شيئاً فشيئاً... وكأنما هنالك قوَّةٌ خفية عن الأنظار لكنَّها موجودةٌ تفتح هذه اليد مُتغلِّبةً على قوَّةِ شدِّ صاحبِها الكبيرة... فقد بدأ يشدُّ معتصراً قواهُ عساه يُقاوم القوَّة الخفيَّةَ التي ما تزال تُجبِر يده على الانفتاح.
وللأسف فقد احتقن وجهُه... ومن المؤكد أنها ارتفعت درجةُ حرارته من شدَّة ما شدَّ... بقبضته.
وبدأ التعب يتسلَّل إليه... ولا فائدة فما نجح، بل فشل وفُتحت يدُه كاملةً منبسطة وبدت ليرة... الذهب... ظاهرةً.
هنالك مدَّ اللصُّ المتحدي يدَه فتناولها ليضعها مبتسماً ابتسامةً مِلْؤها المكر بعيون مظلمةٍ كسواد الليل البهيم، نظرات حادَّة... إنها ثاني ليرة ذهبية يكسبها.
السيد محمد أمين كان يَرْقب الوضع تماماً مدركاً بإيمانه العميق بالله سرَّ عمل ذلك الساحر... عالماً أن لا سلطان له إلا على مستحقٍّ بعيدٍ عن الله، فلو كان الإنسانُ ملتجئاً بحقٍ لله وعائذاً به لما كان له سلطان عليه...
هنالك وقبل أن يمدَّ الثالثُ يده إلى جيبهِ ليقع بيد هذا اللصِّ الماكر كما وقع من قبله اثنان وبالتالي... سيتابع جولتَه على الجميع... واحداً تلْوَ الآخر.
فهذا ما تمَّ الاتفاق عليه... لكن السيد محمد أمين أبى أن يُكمل هذا الخبيثُ دورته على الجميع ويسلبهم ليراتِ الذهب بما لا يرضى به الضمير الحرّ.
بل توجَّه قائلاً: هلمَّ إليَّ فأنا أقبل تحديك، تعالَ أتحداك... هنالك وأمام كل الحضور ترك الشخصَ الذي آل إليه الدورُ ومشى باتِّجاه السيد محمد أمين يتبخترُ... مفتخراً... وكلُّه ثقة بأن النصر حليفهُ مدركاً تماماً أن المؤمنين الحقيقيين بهذا الزمان مفقودون: وإذا ما خلا الجبانُ بأرضٍ طلب الطعن وحده والنزال.
هنالك وقف أمام السيد محمد أمين الذي قال له: سأقبل بمواجهتك وأقبل تحديك ولكن لي شرط واحد: إذا فتحتَ يدي وأخذتَ الليرة سأعطيك من بعدها عَشر ليرات ذهبية أخرى بالإضافة لتلك، وإن لم تستطع فطلبي منك أن تتوب عن هذه الأعمال فهذا السحر لا يزيدك إلاَّ كفراً وشقاءً وبُعداً عن الله... فهل أنت موافق؟
ردَّ الساحر وبكل ثقة فالطمع والشرَهُ بإحدى عشرة ليرة أعمى قلبَه... (رزقة موفقة) بهذا اليوم ولربما يحتاج أشهراً ليجمعها.
أما الجنرال سليم أخو السيد محمد أمين فقد تفاجأ بما سمع من أخيه... ولمشاهدته ما رأى بأم عينه ما حدث مع الاثنين السابقين... إذاً لا بد وأن يخسر أخوه إحدى عشرة ليرة ذهبية! بدل الليرة الذهبية الواحدة!
فلماذا يتورَّطُ بهذه اللعبة، مالَه ومالَها... حاولَ أن يثنيه عن ذلك، إذ دفعه بيده خِفْيةً معبِّراً عن نصيحته: أنْ مالَكَ ومالَهُ لتخسرَ الآن إحدى عشرة ليرة ذهبية!
أما الغلام ابنُ السيد محمد أمين (صلاحُ الدين) الذي كان يجلس بين عمه وأبيه فقد أحسَّ بحركات عمِّه المنبِّهة لوالده محاولاً أن يثنيه عن إقدامه على هذا التحدِّي.
أما السيد محمد أمين فلم يُعِرْ أدنى اهتمام لطلب أخيهِ، بل أخرج ليرةً ذهبية... (قديماً (بذاك الزمان) الليرة الذهبية تُعتبر عملة متداولة ومعظم الناس يحملونها).
هنالك هدأ الأخ الجنرال سليم رغماً عنه والتزم الصمتَ والسكون مراقباً أخاه الذي وضع الليرة وأطبقها بشكل طبيعي... اقترب الساحرُ... لقبالتِه وبدأ الهجومَ بحركاته وتمْتماته... والغريب أن الوضع بقي كما هو فَيدُ السيد محمد أمين ما تزال مطبقةً بشكل طبيعي وبقوَّة والساحرُ... ما يزال يتمتمُ ويُشير بيديه بحركاتٍ مختلفة... طال الوقتُ بالساحر ولم يتغير شيءٌ بالوضع فما يزال كما هو... وما زال يحاول ويحاول ويتمتم ويتحرَّكُ ويحرِّكُ يديه بإشارات وحركات ولكن لا جدوى.
لم يفقد الأملَ قُرابةَ الثلث ساعة، حيث بدأ التعب والإنهاك يأخذ منه كل مأْخذٍ (فما شاهده الغلام صلاح الدين والذي لا يزال يذكره الآن بأنَّ عرقَ الساحرِ المُقْرِف ذا الرائحة النتنة... قد سال من كل أنحاء وجهه فبلل ذقنَه... وسالَ إلى الأرض قطراتٍ... قطرات).
حاول بكلِّ علمه ومهارته... فلم يستطع أن ينجز عمله في هذه المرَّة حتى إنَّه بدأ ينظر من النافذةِ... إلى البابِ... إلى النافذةِ ينظر نظراتِ المستغيث! المَدَدَ! بمن يستغيث!! وممَّن يطلب المعونة؟ تمتم باضطرابٍ بكلمات مُبْهمةٍ... غريبة واضطربت حركاتُه وبدا كأن الخوف قد ملأ قلبَه...
أما السيد محمد أمين وبكل ارتياح واطمئنان... فقد بقي جالساً بمكانه مُطْبِقاً مشرقاً وجهُه.
هنالك لم يعد الساحرُ ليحْتمل الوضع فانفجر صارخاً قائلاً للسيد محمد أمين:
أنت (يا بك) حامل اسم.
فردَّ عليه السيد محمد أمين بقوَّةٍ وبصوت أعلى وأقوى من صوتِ الساحر:
أنا حامل اسم (الله)... جلجلت كلماته بالمكان وتردَّد صداها الرهيب... فخيَّم الصمت على جميع الحضور ممزوجاً بالدهشة والذهول...
لقد فشل الساحرُ...وأيَّ فشلٍ!! إنه فشلٌ كبير، فلقد بلَّلَه عرقُه وأُثيرت أعصابُه وغلت مراجلُ نيران قلبه وبدون فائدة جناها... لقد خسر الجولة...
عندما سمع تلك الكلمات التي وقعت على مسامعه كالرعد القاصف والتي اكتسحت شرورَه وباطلَه صمت ولم يفتح فمه بكلمة بعدها أبداً، بل ترك المجلس وسار مذلولاً حقيراً يجرُّ أذيالَ خيبته وخسارتِه الكبرى...
فلقد استقرَّت في نفسه فكرة وأدرك أمراً...!!
إن هذا الإنسان غريب السِرِّ، ذلك مبلغه من العلم.
مرةً ثانية كان اللقاءُ بمنطقةٍ تابعة لدمشق إنها منتزه رائع هو منتزه الربوة... تمَّ ذلك أيضاً بدعوةٍ حضرها المسؤولون والأغنياء وكان من جملة المدعوين إنسانُنا الفاضل السيد محمد أمين.
قَدِم الساحرُ وكعادته فتفاجأ بوجوده... فاندحر باطله وشرُّه أمام الحق وبات ذليلاً مهموماً... إذ لن يستطيع اليوم أن ينفِّذ أحابيله وسحره.
فجاء راجياً ذليلاً قائلاً: (يا بك) كرامة لله حبيبك اتركني أعمل... اتركني أترزَّق... يا بك انظر إلى كل الحضور فرداً فرداً فهل في أحدهم ذرَّةُ خير... كلّهم بعيدون عن الله وقرينهم الشيطان... فاتركني وشأني معهم.
لكن السيد محمد أمين لم يُعِرْهُ اهتمامَه ولم يعبأْ بكلامه... فالساحر يريد منه أن يترك المجلس كي يستطيع أن يأتي بسحره أمام الناس...
نظر السيد محمد أمين إلى الحضور فأحسَّ أن الجميع يرغبون بالساحر، إنهم يريدون أن يضحكوا ويستمتعوا بتلك الألاعيب السحرية، عندها قال بنفسه: إذا كان الكلُّ يريدون الساحر (سأدعهم وشأنهم). وتركهم مغادراً...
وهكذا كلما رأى الساحر السيد محمد أمين في مجلس أيقن بفشله فهرب ليأتي إليه متوسِّلاً راجياً منه المغادرة إذا كان المجلس ميالاً للفجور كي يخيِّل بأعماله فيسحر أعين الناس ويؤذيهم
بالخفاء وليكسب المال بالحرام.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]