"أتدرون من المفلس
مما شاع بين الناس وفي بعض المجالس السخرية والاستهزاء وهو محرم قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ{[الحجرات: 11].
ومعنى السخرية الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء([1]).
وأشد أنواع الاستهزاء: الاستهزاء بالدين وأهله، ولخطورته وعظم أمره فقد أجمع العلماء على أن الاستهزاء بالله وبدينه وبرسوله كفر بواح، يخرج من الملة بالكلية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر صاحبه بعد إيمانه([2]).
ولقد تفنن في أنواع السخرية والاستهزاء فهناك من يهزأ بالحجاب وآخر بتنفيذ الأحكام الشرعية ولرجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصيب من ذلك.. كما أن السنة أيضا لها نصيب فهذا الاستهزاء باللحية وقصر الثوب وغيره.
ولنعلم خطورة الاستهزاء على دين الرجل.. ما نسمعه يتلى في سورة التوبة: }وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ{[الآيتان: 65، 66]
وقد ورد في سبب نزولها أن رجلا من المنافقين قال: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا، وأكذبنا ألسنة، وأجبنا عند اللقاء فرفع ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال يا رسول الله: إنما كنا نخوض ونلعب فقال: }أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ{ إلى قوله: }مُجْرِمِينَ{ وإن رجليه لتنسفان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متعلق بنسعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ([3]).
وثابت من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أرحم الناس بالناس، وأقبل الناس عذرا للناس، ومع ذلك كله لم يقبل عذرا لمستهزئ ولم يلتفت لحجة ساخر ضاحك([4]).
ولعلك لحظت في الآية الكريمة أن الله شهد لهم بالإيمان قبل الاستهزاء فقال: }قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ{.
ولقد فضح الله تعالى موقف المستهزئين بالمؤمنين فقال تعالى:}زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ{[البقرة: 212] .
والبعض إذا قيل له هذا من باب الاستهزاء بالدين، قال: نحن لم نقصد الدين، ولم نقصد الرجل بذاته، بل نمزح ونمرح.. وما علم إلى أين يؤدي به هذا المرح وذاك المزاح؟
خزي في الدنيا وعذاب في الآخرة.
هلاك ودمار في العاجلة وعذاب مقيم في الآجلة([5]).
قال الله تعالى: }قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ{[المؤمنون: 108-111].
وقال جل وعلا: }وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا{[الأحزاب: 58].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها جلساءه يهوي بها من أبعد من الثريا" رواه أحمد.
وعندما رأى أبو الدرداء امرأة سليطة اللسان قال: لو كانت هذه خرساء لكان خيرا لها([6]).
وقال عبد الله بن مسعود: لو سخرت من كلب، لخشيت أن أكون كلبا، وإني أكره أن أرى الرجل فارغا ليس في عمل آخرة ولا دينا([7]).
وهذا مالك بن دينار يقول: كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة، وكفى المرء شرا أن لا يكون صالحا ويقع في الصالحين([8]).
وكان علي بن الحسين يقول: لا يقول رجل من الخير ما لا يعلم، إلا أوشك أن يقول من الشر ما لا يعلم([9]).
فأحذر زلة لسان تزل بها الأقدام إلى نار تلظى. حمانا الله وإياكم من زلات اللسان ومن غضب الرحمن.
أخي أختي: قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أتدرون من المفلس" قالوا: يا رسول الله المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال صلى الله عليه وسلم: "إن مفلس أمتي من يأتي يوم القيامة بقيام وصيام وصلاة وزكاة وحج، ويأتي وقد شتم هذا وسفك دم هذا وأكل مال هذا، ونال من عرض هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته ولهذا من حسناته فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار".
ولقد تحققت كثير من العقوبات على من استهزأ بشيء من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعباده الصالحين وأوليائه المتقين.
حكى ابن خلكان قال: بلغنا أن رجلا يدعي أبا سلامة من ناحية بصرى كان فيه مجون واستهتار، فذكر عنده السواك وما فيه من الفضيلة فقال: والله لا أستاك إلا في المخرج (يعني دبره) فأخذ سواكا فوضعه في مخرجه ثم أخرجه، فمكث بعده تسعة أشهر وهو يشكو من ألم البطن والمخرج، فوضع ولدا على صفة الجرذان له أربعة قوائم ورأسه كرأس السمكة وله أربعة أنياب بارزة وذنب طويل وأربعة أصابع وله دبر كدبر الأرنب، ولما وضعه صاح ذلك الحيوان ثلاث صيحات فقامت ابنة ذلك الرجل فرضحت رأس الحيوان الغريب وعاش ذلك الرجل بعد وضعه له يومين ومات في الثالث.
وكان يقول: هذا الحيوان قتلني وقطع أمعائي، قال ابن كثير: وقد شاهد ذلك جماعة من أهل تلك الناحية وخطباء ذلك المكان ومنهم من رأى ذلك الحيوان حيا ومنهم من رآه بعد موته([10]).
هذه قصة واحدة جرت في زمن مضي، وهناك الكثير لو تتبعنا كتب السير والتاريخ.
ونعود لعصرنا الحاضر يحدثنا العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله فيقول: كان (ا
طه حسين) طالبا في الجامعة المصرية القديمة، وتقرر إرساله في بعثة إلى أوربا فأراد حضرة السلطان حسين رحمه الله أن يكرمه بعطفه ورعايته، فاستقبله في قصره استقبالا كريما، وحباه هدية قيمة المغزي والمعنى.
وكان من خطباء المساجد التابعين لوزارة الأوقاف، خطيب فصيح متكلم مقتدر، هو الشيخ محمد المهدي خطيب مسجد عزبان، وكان السلطان حسين رحمه الله مواظبا على صلاة الجمعة.
فصلى الجمعة يوما ما، بمسجد المبدولي القريب من قصر عابدين العامر، وندبت وزارة الأوقاف ذلك الخطيب لذلك اليوم وأراد الخطيب أن يمدح عظمة السلطان، وأن ينوه بما أكرم (طه حسين) وحق له أن يفعل، ولكن خانته فصاحته وغلبه حب التعالي في المدح، فزل زلة لم تقم له قائمة من بعدها.
إذ قال أثناء خطبته جاءه الأعمى فما عبس في وجهه وما تولى، وكان من شهود هذه الصلاة والدي الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر سابقا رحمه الله فقام بعد الصلاة يعلن الناس في المسجد أن صلاتهم باطلة، وأمرهم أن يعيدوا صلاة الظهر فأعادوها، ذلك بأن الخطيب كفر بما شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم تعريضا لا تصريحا، لأن الله سبحانه عتب على رسوله صلى الله عليه وسلم حين جاءه ابن أم مكتوم الأعمى، وهو يحدث بعض صناديد قريش يدعوهم إلى الإسلام.
فأعرض عن الأعمى قليلاً حتى يفرغ من حديثه فأنزل الله عتاب رسوله في هذه السورة الكريمة ثم جاء هذا الخطيب الأحمق الجاهل، يريد أن يتملق عظمة السلطان رحمه الله وهو عن تملقه غني والحمد لله، فمدحه بما يوهم السامع أنه يريد إظهار منقبة لعظمته، بالقياس إلى ما عاتب الله عليه رسوله، واستغفر الله من حكاية هذا فكان صنع الخطيب المسكين تعريضا برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى به مسلم وفي مقدمة من ينكره السلطان نفسه.
ولكن الله لم يدع لهذا المجرم جرمه في الدنيا قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى، فأقسم بالله: لقد رأيته بعيني رأسي بعد بضع سنين وبعد أن كان متعاليا متنفخا مستعزا بمن لاذبهم من العظماء والكبراء، رأيته مهينا ذليلا خادما على باب مسجد من مساجد القاهرة، يتلقى نعال المصلين يحفظها في ذلة وصغار حتى لقد خجلت أن يراني، وأنا أعرفه وهو يعرفني، لا شفقة عليه فما كان موضعا للشفقة ولا شماتة فيه فالرجل النبيل يسمو على الشماتة، ولكن ما رأيت من عبرة وموعظة([11]).