بمن يزهو التاريخ ؟
بادئ ذي بَدء، إنِّي من مُحبِّي التاريخ، ومن عُشَّاق التجول بين أَرْوقته العامرة بشتَّى القَصص، وإن التاريخ لَمتحفٌ فيه شتَّى الصور، حقيقية مجردة من اعتراء أي زَيف، في التاريخ انكسار وانتصار، وكلمات لا يثبتها إلا الكلمة الأخيرة.
إنَّ الناظر في التاريخ بمداده المخضب بشتَّى الأحاسيس، ليعجب من تقلُّب الحال، ومن الحياة ذاتها، فكم سطَّر بين حناياه حكايات قزمٍ طاوَل طودًا، أو سَفيه حاوَل ارتقاء المجد بسَفهه، فكان أنْ وقَع وسقَط، وكم في التاريخ من مجد بُنِي على جُرف هار، فهوَى بصاحبه إلى لُجج الهزيمة والانكسار.
في التاريخ رجال بكلِّ الصنوف؛ المؤمن والفاجر، والمكافح والمتخاذل، والمنتصر والخاسر، وفيه من الأمجاد الكثير.
فبمَن يزهو التاريخ؟
أيزهو التاريخ بأولئك الذين تخضب إنجازُهم بإزهاق أرواح الأبرياء، والاقتيات بدماء البُسطاء؟ أم يزهو التاريخ بِمَن أكَل أفخَر الطعام، وخدَّر أنفه برائحة اللذائذ، وتحت شُرْفة قصره تهاوَى الناس ممزَّقين من الجوع، وافترَش البؤْس شوارع مملكته، وهو غافلٌ لاهٍ؟
أتُراه يزهو بِمَن بنَوْا مجدَهم من غشٍّ ونفاق، وسطروا بالوزر لحظات حياتهم، فلا مجدًا بنوا! ولا بوسام الكفاح تُوجوا!.
إنَّ التاريخ إنْ نطقَ مُجيبًا عن سؤالي وسؤال مَن أرادوا أن ينالوا زَهوه بهم، لأوْضَحَ بلؤلؤ البيان أنَّ المجد لا يتأتَّى من فراغ، بل من رسالة ننذرُ أنفسنا لها، وقلبٍ ننقِّيه من كَدَر الدَّنايا، وهِمَّة تتطلَّع لارتقاء القِمم، وثبات وتعلُّم من الأخطاء، ومزيج من عزيمة وإصرار، وحُسن بَيان، ومبادرة تشقُّ كبدَ الركون، وتوكُّل على الله يشقُّ الصخور العِظام.
إنَّ المجد الذي به التاريخ يزهو، هو مجدٌ يَنبثق من عقيدة صافية، يسير وَفْق مبادئها، ويكافِح في سبيلها، يتعلَّمها ويتشربه قلبُها، فيغدو مُثقلاً بها، وتغدو هي رُوحه، ويغدو قلبُه سلمًا لمولاه، عارفًا به ومُعَرِّفه للناس.
إنَّ طالب المجد مُجاهد؛ لأنَّ المجد لا يُنال بالدَّعَة والتَّرَف، بل يُنال بعد استخراج وتنقيبٍ، وكفاح وتعبٍ وعَرَقٍ يتلألأ على الْجَبين.
المجد: هو أنْ نَثْبُتَ على مبادئنا وعقيدتنا، حين يُلقي ذَوُو الهوى عتادَهم علينا، ويَقذفون بسَهم الباطلِ الحقَّ، فلا يزيدنا ذلك إلا إيمانًا وتسليمًا، وانبراءً لهم بتوضيح الحقِّ.
المجد صمودٌ، والمجد مقارعة صعابٍ، وكفاح على السفوح، وما اتَّسَم بالصمود مَن سخَّره لأجْل سَفْك الدماء، وما اتَّصَف بمقارعة الصعاب مَن قارَع الحقَّ لإبادة الأبرياء، وما كافَح مَن كافَح لأجْل حرامٍ يُقَرِّبه إلى هدفه زُلْفى.
إنَّ المتأمِّل في التاريخ وذا اللُّبِّ ليرى أنَّ المجد هو ما بَقِي مضيئًا مُشرِقًا، بحبْرِ الخير سُطِّر، وبالإرادة زُيِّن، لا ذاك الذي بالظُّلم سُطر، وبالهوى دُبج.
المجد لا يطلبُ منَّا أن نُردِّد الأحاسيس جوفاء إلاَّ من زُخرف، ولا يطلب منَّا أن نَصير آلة بلا أحاسيس، بل أنْ نطوِّر أنفسنا، وأن نرقَى بفِكرنا وبعِملنا، وأنْ نُحبَّه.
إنَّ المجد هو أنْ يَمتلأ القلبُ بحبِّ الله، فلا يصير مجرَّد كلمات نردِّدها، وأنْ نملأَ فؤادَنا برجاء الله وهَيْبته - عز وجل - فيصير الله أكبرَ هَمِّنا ورغباتنا، ونسخِّر رغباتنا لرضاه - عز وجل -.
إن المجد هو أنْ نكون من: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)[النور: 37].
وإنْ أردتَ أن تلحقَ بتلك الثُّلَّة التي عانقتْ سموَّ القِمم، فحُثَّ سَيْرَك تجاه خُطاهم، أخْلِص لله، تنلِ التوفيق والرضا، واتَّبِع سُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - تنلْ شرفَ صواب العمل، ثم عليك بالقراءة في سِيَر أولئك الذين سطَّروا تاريخًا فاضَ بالنقاء، وحَظوا بشرف خير القرون.
ولا تنسَ القراءة، فإنها ارتشاف من نبعِ العِبَر، وارتواءٌ من وَدْق التجارِب وغَمام الإصرار، بالقراءة يسمو الفكر ويصقلُ الذهن، وبالقراءة يسافر المرءُ برُوحه لعالَمٍ آخرَ، فإن أرادَه عالَمًا مِن انحطاط، كان عليه، وإنْ أرادَ بالكتاب ارتقاءً، كان له، فأيَّ الطريقين تختارُ؟
والمجد إنَّما يَنبثق من إرادة قويَّة، وعزْم صادق، وصبرٍ يُذْهِب بَردُه حرَّ الطريق.
لا تجعل غرضَك من المجد الشُّهرة والرئاسة، واجْعَل المجد وسيلةً للوصول للجنة لا هدفًا.
حينها يزهو بك التاريخ من تلقاء نفسه، فأنت لَم تبعْ آخِرتك بحرفِ ثناء، بل عملتَ لربِّ العباد، وتزدان صفحاته بك.
أضِئْ بالأمل، وسِرْ بالثقة بالله، والتوكُّل عليه، خُذْ بالأسباب، وضمِّدْ جروحَك بالتعلُّم منها، يُزَفَّ إليك المجدُ متوَّجًا بأكاليل من الفرح، وترتوي رُوحك بطعم النجاح، وعذقه الرداح
بادئ ذي بَدء، إنِّي من مُحبِّي التاريخ، ومن عُشَّاق التجول بين أَرْوقته العامرة بشتَّى القَصص، وإن التاريخ لَمتحفٌ فيه شتَّى الصور، حقيقية مجردة من اعتراء أي زَيف، في التاريخ انكسار وانتصار، وكلمات لا يثبتها إلا الكلمة الأخيرة.
إنَّ الناظر في التاريخ بمداده المخضب بشتَّى الأحاسيس، ليعجب من تقلُّب الحال، ومن الحياة ذاتها، فكم سطَّر بين حناياه حكايات قزمٍ طاوَل طودًا، أو سَفيه حاوَل ارتقاء المجد بسَفهه، فكان أنْ وقَع وسقَط، وكم في التاريخ من مجد بُنِي على جُرف هار، فهوَى بصاحبه إلى لُجج الهزيمة والانكسار.
في التاريخ رجال بكلِّ الصنوف؛ المؤمن والفاجر، والمكافح والمتخاذل، والمنتصر والخاسر، وفيه من الأمجاد الكثير.
فبمَن يزهو التاريخ؟
أيزهو التاريخ بأولئك الذين تخضب إنجازُهم بإزهاق أرواح الأبرياء، والاقتيات بدماء البُسطاء؟ أم يزهو التاريخ بِمَن أكَل أفخَر الطعام، وخدَّر أنفه برائحة اللذائذ، وتحت شُرْفة قصره تهاوَى الناس ممزَّقين من الجوع، وافترَش البؤْس شوارع مملكته، وهو غافلٌ لاهٍ؟
أتُراه يزهو بِمَن بنَوْا مجدَهم من غشٍّ ونفاق، وسطروا بالوزر لحظات حياتهم، فلا مجدًا بنوا! ولا بوسام الكفاح تُوجوا!.
إنَّ التاريخ إنْ نطقَ مُجيبًا عن سؤالي وسؤال مَن أرادوا أن ينالوا زَهوه بهم، لأوْضَحَ بلؤلؤ البيان أنَّ المجد لا يتأتَّى من فراغ، بل من رسالة ننذرُ أنفسنا لها، وقلبٍ ننقِّيه من كَدَر الدَّنايا، وهِمَّة تتطلَّع لارتقاء القِمم، وثبات وتعلُّم من الأخطاء، ومزيج من عزيمة وإصرار، وحُسن بَيان، ومبادرة تشقُّ كبدَ الركون، وتوكُّل على الله يشقُّ الصخور العِظام.
إنَّ المجد الذي به التاريخ يزهو، هو مجدٌ يَنبثق من عقيدة صافية، يسير وَفْق مبادئها، ويكافِح في سبيلها، يتعلَّمها ويتشربه قلبُها، فيغدو مُثقلاً بها، وتغدو هي رُوحه، ويغدو قلبُه سلمًا لمولاه، عارفًا به ومُعَرِّفه للناس.
إنَّ طالب المجد مُجاهد؛ لأنَّ المجد لا يُنال بالدَّعَة والتَّرَف، بل يُنال بعد استخراج وتنقيبٍ، وكفاح وتعبٍ وعَرَقٍ يتلألأ على الْجَبين.
المجد: هو أنْ نَثْبُتَ على مبادئنا وعقيدتنا، حين يُلقي ذَوُو الهوى عتادَهم علينا، ويَقذفون بسَهم الباطلِ الحقَّ، فلا يزيدنا ذلك إلا إيمانًا وتسليمًا، وانبراءً لهم بتوضيح الحقِّ.
المجد صمودٌ، والمجد مقارعة صعابٍ، وكفاح على السفوح، وما اتَّسَم بالصمود مَن سخَّره لأجْل سَفْك الدماء، وما اتَّصَف بمقارعة الصعاب مَن قارَع الحقَّ لإبادة الأبرياء، وما كافَح مَن كافَح لأجْل حرامٍ يُقَرِّبه إلى هدفه زُلْفى.
إنَّ المتأمِّل في التاريخ وذا اللُّبِّ ليرى أنَّ المجد هو ما بَقِي مضيئًا مُشرِقًا، بحبْرِ الخير سُطِّر، وبالإرادة زُيِّن، لا ذاك الذي بالظُّلم سُطر، وبالهوى دُبج.
المجد لا يطلبُ منَّا أن نُردِّد الأحاسيس جوفاء إلاَّ من زُخرف، ولا يطلب منَّا أن نَصير آلة بلا أحاسيس، بل أنْ نطوِّر أنفسنا، وأن نرقَى بفِكرنا وبعِملنا، وأنْ نُحبَّه.
إنَّ المجد هو أنْ يَمتلأ القلبُ بحبِّ الله، فلا يصير مجرَّد كلمات نردِّدها، وأنْ نملأَ فؤادَنا برجاء الله وهَيْبته - عز وجل - فيصير الله أكبرَ هَمِّنا ورغباتنا، ونسخِّر رغباتنا لرضاه - عز وجل -.
إن المجد هو أنْ نكون من: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)[النور: 37].
وإنْ أردتَ أن تلحقَ بتلك الثُّلَّة التي عانقتْ سموَّ القِمم، فحُثَّ سَيْرَك تجاه خُطاهم، أخْلِص لله، تنلِ التوفيق والرضا، واتَّبِع سُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - تنلْ شرفَ صواب العمل، ثم عليك بالقراءة في سِيَر أولئك الذين سطَّروا تاريخًا فاضَ بالنقاء، وحَظوا بشرف خير القرون.
ولا تنسَ القراءة، فإنها ارتشاف من نبعِ العِبَر، وارتواءٌ من وَدْق التجارِب وغَمام الإصرار، بالقراءة يسمو الفكر ويصقلُ الذهن، وبالقراءة يسافر المرءُ برُوحه لعالَمٍ آخرَ، فإن أرادَه عالَمًا مِن انحطاط، كان عليه، وإنْ أرادَ بالكتاب ارتقاءً، كان له، فأيَّ الطريقين تختارُ؟
والمجد إنَّما يَنبثق من إرادة قويَّة، وعزْم صادق، وصبرٍ يُذْهِب بَردُه حرَّ الطريق.
لا تجعل غرضَك من المجد الشُّهرة والرئاسة، واجْعَل المجد وسيلةً للوصول للجنة لا هدفًا.
حينها يزهو بك التاريخ من تلقاء نفسه، فأنت لَم تبعْ آخِرتك بحرفِ ثناء، بل عملتَ لربِّ العباد، وتزدان صفحاته بك.
أضِئْ بالأمل، وسِرْ بالثقة بالله، والتوكُّل عليه، خُذْ بالأسباب، وضمِّدْ جروحَك بالتعلُّم منها، يُزَفَّ إليك المجدُ متوَّجًا بأكاليل من الفرح، وترتوي رُوحك بطعم النجاح، وعذقه الرداح