[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
اتمني تنال القصه اعجابكم :-
انبسطتْ تحت أشعة الشمس رُقعة مترامية الأطراف من منازل متناسقة البنيان، زاهية الألوان، تحوطها أشجار الأرز الباسقة و جبال خضراء شامخة..
و لعل الرّائي من عل سوف يرى انشطار الرقعة إلى شطرين و انقسامها إلى قسمين متباينين.. قسم من البنايات الحديثة، و الذي يُطلق عليه اسم (المدينة الجديدة) و هو الأوسع نطاقا، و الأكثر انتشارا حيث يحتل ثلثي المساحة تقريبا. و قسم ثاني تظهر معالم القدم على منازله و مساجده و أسواقه الفسيحة.. و هو ما يشكل (المدينة القديمة).
هذه الرقعة هي مدينة (فاس).. العاصمة الثقافية و التراثية للمغرب، فما أجمل أبوابها المزخرفة و ما ألذّ لكنة سكانها السلسة و ما أبهى ذلك الشعور بالانتماء الذي يتملّكك و أنت تتجول بأزقتها الشعبية!..
* * *
المدينة القديمة، ساحة القرويين، حي الحنصالي.. فضاء شعبي يموج بالحياة و يعُجّ بالحركة.. متشابهة منازله، متقاربة أبوابه..
صبيان يركضون بخفة أمامك ثم سرعان ما يختفون بأول انحراف فلا يبقى سوى صدى ضحكاتهم تتقاذفه الجدران.. ثم تمر في الطرف الآخر من الزقاق ثلة من نساء محجبات يمشين بتؤدة و استحياء و يحملن أكياسا على رؤوسهنّ بطريقة فيها من البراعة و الحذاقة الشيء الكثير..
و شديد الانتباه لن تفوته ملاحظة منزل معزول في آخر الحي..
جدرانه متآكلة، زجاج نوافذه مكسور، و أكثر ما يشدّ الانتباه هو بابه الضخم العتيق، و قد عُلّقت فوقه قطعة خشبية، مائلة، مكتوب عليها بخط قديم (رقم 12)..
و إذا سألت أيّ شخص يقطن بذلك الحي عن هذا المنزل.. سيجيبك بسؤال أكثر غموض من سؤالك.. ( أتقصد المنزل 12 !؟ )..
إنه بيت شهير تحوم حوله الأساطير و تتحدث عنه قصص الأشباح و الأرواح.. و لعلّ أشهرها إن لم أقل أكثرها وثوقا هي قصة السيد (علاّل)..
إذ يُروى أن هذا السيد كان يملك المنزل رقم 12 منذ ما يعادل قرنا من الزمان.. رجلٌ عادي، يشتغل بالأمن.. وكان يحبس أخاً له بغرفة بالطّابق العلوي..
و يُقال أن ذلك الأخ كان مجنونا.. لدرجة جعلته عنيفا للغاية، لا يستطيع أحدٌ التحدث إليه أو الاقتراب منه.. حتى أن السيد (علاّل) كان يقدّم له الطعام من فتحة أسفل الباب..
مات السيد (علاّل) في منتصف القرن الماضي، في ظروف غامضة، و مات أخوه بعده بوقت وجيز.. و منذ ذلك الحين بدأت أشياء غريبة تحدثُ بالمنزل رقم 12..
فغادر المنزل كل من استأجره و بطريقة مخيفة.. منهم من يخرج عاريا، يجري و قد ترك كل ما يملك في المنزل.. و منهم من فقد عقله تماما.. و أكثر من مرة وُجدت بالمنزل جثث هامدة على وجوه أصحابها أعتا علامات الرُّعب !..
فقرّر وارث المنزل رقم 12، منذ عقدين أن يغلق باب تلك الغرفة، التي كانت سجنا للأخ المجنون، فوضع فوق بابها كميات كبيرة من الخرسانة!.. بعد أن اعترف من لم يفقد حياته و لا عقله من المستأجرين أن تلك الغرفة بالذات تحوي سرّا مرعبا.. إذ يُسمع ببابها ليلا صوت قرع عنيف حتى يتوقعون أن ينخلع الباب من مكانه !.. ثم أصوات خدش بالأظافر و عويل تقشعرّ له الأبدان !..
و تخلّى بعد ذلك صاحب المنزل 12 عن ملكيته.. فخلى المنزل من السكان و الأثاث و من كل شيء.. ما عدا ذلك البيت بالطابق العلوي و الذي لم يجرأ أحدهم على دخوله ليفرغ ما به من أثاث.. وبقي بآخر رواق الطابق العلوي.. غامضا، رهيبا.. و قد غُطّي بابه بطبقة سميكة من الخرسانة..
دُفن و به السرّ الذي بقي مجهولا حتى تلك الليلة من شتاء سنة 1985!..
* * *
ركنَ القطار أخيرا بعد أن أصدرَ صريرا..
انفتح الباب الحديدي على مصراعيه، فظهرت وجوه متوترة جدّية، عيونها تبحث عن شيء ما !..
و حين انقشع الزحام و خفت كثافة الأنام.. ظهر شابان فارعا الطول، جميلا الهندام.. تبدو جليّة على محيّاهما إمارات الشباب و الحيوية و كثرة الكلام..
في ذلك المسـاء كان الجو غائما.. إذ اقتربت السحب الرمادية المبعثرة و امتزجت لترسم سماء كئيبة، تنذر بغضب الرياح..
* * *
دلف الشابان إلى بار في مؤخرة زقاق مظلم.. كانت الساعة وقتها تشير إلى الثامنة ليلا..
.
.
الحادية عشرة و النصف.. صوت ضحكات مدوّية بالمكان.. خرج الشابان و هما يترنحان من فرط السكر.. يصطدمان ببعضهما ثم بجدران الزقاق المظلمة..
انتبها إلى أن السماء ترسل خيوطا من الماء البارد.. صرخ أحدهما و هو يرفع رأسه إلى السماء، و قهقه الآخر بعد أن ركل صاحبه على مؤخرته..
أدخل (هشام) يده بجيبه و أخرج باطنه بسخرية، كتعبير على نفاذ النقود لديه !..
قام الآخر بنفس العملية ليسترسلا في ضحك عالي..
قال (جمال) و هو يجول مع رفيقه بشوارع المدينة شبه الفارغة:
- تبا لتلك المومسات !.. لقد سرقن كل ما تبقى معي من المال..
أجابه (هشام) و هو لم يزل يقهقه بصوته الرقيق:
- أما أنا فأعطيته لهن عن طيب خاطر... هاهاها..
* * *
وصلا أخيرا، بعد أن تاها بأحياء المدينة المتشعّبة، إلى فنـاء رحب، كُتب على لافتة بمدخله "سـاحة القرويين" !..
كان الوقت قد جاوز منتصف الليل، فخلت الشوارع و أُغلقت الدكاكين و أوت القطط إلى مضاجعها و طارت العصافير إلى أعشاشها..
قلّب (هشام) كفيه في انعدام حيلة و قال..
- البرد و الشتاء و لا مكان نلقي فيه جسدينا المنهكين !..
قد بدأ أثر الخمر يزول عن ذهنيهما شيئا فشيئا لما أحسا بحجم المصيبة التي يواجهانها..
لم يجبه (جمال) و إنما أشار بأصبعه إلى مكان ما قائلا:
- أ ترى ذلك المنزل هناك ؟.. إنه يبدو مهجورا..
- نعم أراه.. ما به ؟
- ما رأيك لو..
- أجننت.. نبيت هناك ؟.. ألا ترى النوافذ المكسورة !.. و الحائط العتيق ؟!.. ثم أنظر إلى تلك الكتابة "رقم 12 " !.. و كأنها تعود لعهد الرومان !..
- إنه الحل الوحيد يا أبله.. ماذا نفعل ؟.. أنحشر أنفسنا في سطلي قمامة مثلا ؟.. أم ننام على أغصان شجرة ؟..
- لماذا لا تقول نطرق الأبواب و نطلب المبيت ؟..
- يا لسذاجتك !.. أتظن أن أحدا يرغب باستضافة سكيران، تائهان مع منتصف الليل و المطر يقصف الأرض قصفا ؟..
بدا و كأن (هشام- لا أدري لماذا لم أرتح كثيرا لهذا المكان ؟.. إنه يجعل أطرافي ترتعد و أنفاسي ترتعش !..
* * *
تقلب (جمال) في مكانه و هو يواصل شخيره المزعج ثم رفع رأسه فجأة !..
كان شيء ما يخزه بظهره !..
فرك عينيه بتوتر و رأى في مشهد ضبابي صديقه يحمل شمعة و يتمتم بكلمات غير مسموعة !..
- ما بك يا أحمق ؟!.. لماذا تطعنني بأصبعك النحيف ؟..
قالها (جمال) مكشّرا عن أسنانه من فرط الغضب..
لم يجبه (هشام- ألم تلاحظ شيئا غريبا هنا ؟..
* * *
سـاد الظلام و أقام الصمت..
يبدو أن الخطوات قد توقفت !..
استنشقا رائحة الشمع و استرقا السمع..
بلع أحدهما ريقه بصوت مسموع..
و فجأة.. و بدون مقدمات سمعا أنينا تلاه صوت ركض.. ثم.. !..
* * *
- إنه يبدو واثقا من نفسه للغاية !..
* * *
رأيا ظلا يتجاوز عتبة الباب بسرعة البرق !..
ارتفعت دقّات قلبيهما و شهق أحدهما شهقة حادة و كأن قلبه انفجر !..
أراد (هشام- أ ترى ذلك المنزل هناك ؟.. إنه يبدو مهجورا..
* * *
كــان يبدو أطول من اللاّزم !..
ليس واضحا بما فيه الكفاية و لكنهما رأيا...
ساقاه النحيفتان و المقوّستان.. كأن ليس بهما عظم !.. عليهما لحم مترهّل كأنه مسلوق !!..
ثم يداه الطويلتان وقد جاوزا الركبتين.. يكسوهما نفس اللحم المتراخي !.. مع بعض الأصابع المبتورة !؟..
كان هذا كل ما تمكنا من رؤيته، و قد كان كافيا ليجعل عموديهما الفقريين يرتعشان بعنف و تسري بعروقهما صعقة تشلّ جسميهما !..
و كانت الحركة المباغتة التالية.. أن قفز أحدهما من السرير صارخا و قد فقد صوابه تماما !..
* * *
لم يجبه (هشام)
* * *
و قد كان هذا (هشام) كان الوقت قد جاوز منتصف الليل، فخلت الشوارع و أُغلقت الدكاكين و أوت القطط إلى مضاجعها و طارت العصافير إلى أعشاشها..
* * *
بدأ عقله يعمل أخيرا بعد أن تخدّر تخديرا..
و فور أن تبلورت فكرة ما بذهنه حتى نفذها بطريقة آلية..
إذ وثب من السرير وثبة لا تُصدّق و ركض كالمجنون باتجاه عتبة الباب التي بالكاد يراها !..
ثم سرعان ما وجد نفسه يقفز في الدرجات قفزا و هو يحاول تمييز نهاياتها بصعوبة..
لاهثا، مُبعثر التركيز، حافي القدمين و قد انغرست أسفلهما قطع من الزجاج المتناثر في كل مكان..
و ارتفع صُراخ (هشامنظر (هشام) بجنبيه و شعر و كأنه وحيد.. و كأنه لا مفر له من شيء ما !.. و كأن !!...
* * *
وصل إلى الطابق الأول.. لا يكاد يرى موضع قدميه لشدة سواد المكان و لكنه مازال يواصل عدوه المحموم.. لا يخطر بباله خاطر و لا تُثيره رغبة من الرغبات.. سوى رغبة الخروج من جحيم الرعب الذي تورّط فيه !..
زلّت قدماه على حين غرّة في درجة من الدرجات (الوهمية) التي يقفز بها.. فسقط و اندفع جسمه بعنف ليتدحرج بسرعة مُخيفة و يرتطم بالجدار تارة و تارة أخرى يصطدم رأسه بالحديد الذي يحدّ السلم.. فتصدر إثر ذلك فرقعة مروّعة !..
ثم استقر جسمه أخيرا على أرضية السّفلي..
* * *
غريب !.. مع أن هذا الحي مأهول بالسكان ؟..
* * *
سكنت حركاته و شُلّت أطرافه.. و بقي لُهاثه الرتيب يُسمع في جوف الظلام..
أحسّ بسائل دافئ يسيل على جبهته ففهم أنه الدم.. فقد تلقّى رأسه ضربات مؤلمة و هو يتدحرج بالسلم..
حاول فتح جفنيه بصعوبة و لكنهما كانا ينغلقان رغما عنه.. فأدرك برعب أنه سيفارق وعيه عمّا قريب !..
و لم يكن ليتحرك أو يرفع رأسه قيد أنملة لولا أن سمع صرخة مدوّية بالأعلى.. صرخة يعرف صاحبها جيدا !..
فثار بركان الرعب بأحشائه من جديد و أنّ بشدة و هو ينتصب على قدميه..
و لما رمى خطوة واحدة التوت رجلاه و سقط بعنف.. فهوى وجهه على بقعة الدماء التي خلّفها جُرح رأسه !..
و صرخ مُتألما و هو يمسك ساقه اليمنى... يبدو أنها قد كُسرت !..
* * *
و منهم من فقد عقله تماما..
* * *
نهض مزمجرا و أسنانه تصطك من شدة التوتر.. عرج جارا ساقه المكسورة باتجاه النافذة التي حطّمها و صديقه قبل دخولهما إلى هذا المكان الملعون !...
وقف أمامها لحظة قبل أن يضع يداه على حافتها ثم يرفع جسده بجُهد جهيد.. و يُلقي بنفسه إلى الخارج!
* * *
- سأنام.. و في الغد يمكنني مساعدتك في اكتشافك المهم !.. طابت ليلتك.
* * *
كان يعرج بشكل مخيف تحت المطر الغزير و هو يزفر زفيرا حادا.. و خيوط المطر تضرب على رأسه المجروح كالإبر الصغيرة !..
فاختلطت قطرات الماء البارد على وجنتيه بدموعه الدافئة التي تسكبها عيناه..
و هو يفكر بمصير صديقه المسكين !..
ولم يزل على هذا الحال.. حتى رأى بطرف عينه شخصا يستند إلى حائط هناك.. يضع يديه بجيبيه و بفمه نصف سيجارة مشتعلة..
قصده دون أن يفكر ثانية.. فكاد الآخر يفرّ رعبا من طريقة مشيه و لُهاثه و منظر رأسه الدامي !..
و لكن (جمال) توقف و ناداه متوسلا ثم أشار إلى خلفه و هو يبكي بصوت مرتفع !..
بقي الرجل لبرهة حائرا ينظر باستغراب إلى (جمـال) قبل أن يقترب منه بحذر و على وجهه إمارات الاستفسار و الاستفهام !..
كان (جمال) يتحدث بسرعة و عصبية و صوته يُخالطه النياح..
و لما أعرب الرجل عن عدم فهمه لما يحاول (جمال) تفسيره.. وفي هذه اللحظة بالذات سمعا صرخة رعب طويلة ورائهما..
ثم طارت عصافير سوداء من أسطح المنازل !..
* * *
أجابه (هشام) و هو لم يزل يقهقه بصوته الرقيق:
- أما أنا فأعطيته لهن عن طيب خاطر... هاهاها..
* * *
و لم يكد أحدهما يلتفتُ ورائه حتى دوّى بالمكان صوت تكسّر زجاج.. ثم اندفع جسم من نافذة بالطابق العلوي لمنزل في نهاية الحي.. ليسقط بعنف مع شظايا الزجاج على قارعة الطريق !!..
تمتم الرجل الغريب برعب:
- أتقصد المنزل رقم 12 ؟!..
ثم فرّ هاربا !...
* * *
و أكثر من مرة وُجدت بالمنزل جثث هامدة على وجوه أصحابها أعتا علامات الرُّعب !..
* * *
لم يُصدّق (جمال) ما رأته عيناه.. و بقي متسمرا مكانه..
هو الذي كان يجري برِجل مكسورة حتى يطلب النجدة لصديقه المسكين !..
صديقُ الطفولة.. ذلك الشاب المرح، الذكي.. الذي أحسّ بالخطر مُسبقا !..
بكى بحرقة و هو يجر رجله إلى المكان اللعين.. متغلبا على رعبه و منتصرا على رغبة الفرار التي تتملكه..
ثم وصل أسفل النافذة..
انحنى على جثة صديقه و هاله التواء أطرافه البشع !.. فسكب المزيد من العبرات..
و لكن ما أخافه و جعله يبتعد مُسرعا.. آسفا على خيانة صديقه و عدم مساندته في تلك اللحظة الحرجة.. ما أشعل الرعب في صدره مرة أخرى و أثار غريزة الذعر لديه.. هو عيناه !.. اللّتان خرجتا من مقلتيهما تماما !؟!...
فماذا رأتا أكثر مما رأى ؟؟..
اتمني تنال القصه اعجابكم :-
انبسطتْ تحت أشعة الشمس رُقعة مترامية الأطراف من منازل متناسقة البنيان، زاهية الألوان، تحوطها أشجار الأرز الباسقة و جبال خضراء شامخة..
و لعل الرّائي من عل سوف يرى انشطار الرقعة إلى شطرين و انقسامها إلى قسمين متباينين.. قسم من البنايات الحديثة، و الذي يُطلق عليه اسم (المدينة الجديدة) و هو الأوسع نطاقا، و الأكثر انتشارا حيث يحتل ثلثي المساحة تقريبا. و قسم ثاني تظهر معالم القدم على منازله و مساجده و أسواقه الفسيحة.. و هو ما يشكل (المدينة القديمة).
هذه الرقعة هي مدينة (فاس).. العاصمة الثقافية و التراثية للمغرب، فما أجمل أبوابها المزخرفة و ما ألذّ لكنة سكانها السلسة و ما أبهى ذلك الشعور بالانتماء الذي يتملّكك و أنت تتجول بأزقتها الشعبية!..
* * *
المدينة القديمة، ساحة القرويين، حي الحنصالي.. فضاء شعبي يموج بالحياة و يعُجّ بالحركة.. متشابهة منازله، متقاربة أبوابه..
صبيان يركضون بخفة أمامك ثم سرعان ما يختفون بأول انحراف فلا يبقى سوى صدى ضحكاتهم تتقاذفه الجدران.. ثم تمر في الطرف الآخر من الزقاق ثلة من نساء محجبات يمشين بتؤدة و استحياء و يحملن أكياسا على رؤوسهنّ بطريقة فيها من البراعة و الحذاقة الشيء الكثير..
و شديد الانتباه لن تفوته ملاحظة منزل معزول في آخر الحي..
جدرانه متآكلة، زجاج نوافذه مكسور، و أكثر ما يشدّ الانتباه هو بابه الضخم العتيق، و قد عُلّقت فوقه قطعة خشبية، مائلة، مكتوب عليها بخط قديم (رقم 12)..
و إذا سألت أيّ شخص يقطن بذلك الحي عن هذا المنزل.. سيجيبك بسؤال أكثر غموض من سؤالك.. ( أتقصد المنزل 12 !؟ )..
إنه بيت شهير تحوم حوله الأساطير و تتحدث عنه قصص الأشباح و الأرواح.. و لعلّ أشهرها إن لم أقل أكثرها وثوقا هي قصة السيد (علاّل)..
إذ يُروى أن هذا السيد كان يملك المنزل رقم 12 منذ ما يعادل قرنا من الزمان.. رجلٌ عادي، يشتغل بالأمن.. وكان يحبس أخاً له بغرفة بالطّابق العلوي..
و يُقال أن ذلك الأخ كان مجنونا.. لدرجة جعلته عنيفا للغاية، لا يستطيع أحدٌ التحدث إليه أو الاقتراب منه.. حتى أن السيد (علاّل) كان يقدّم له الطعام من فتحة أسفل الباب..
مات السيد (علاّل) في منتصف القرن الماضي، في ظروف غامضة، و مات أخوه بعده بوقت وجيز.. و منذ ذلك الحين بدأت أشياء غريبة تحدثُ بالمنزل رقم 12..
فغادر المنزل كل من استأجره و بطريقة مخيفة.. منهم من يخرج عاريا، يجري و قد ترك كل ما يملك في المنزل.. و منهم من فقد عقله تماما.. و أكثر من مرة وُجدت بالمنزل جثث هامدة على وجوه أصحابها أعتا علامات الرُّعب !..
فقرّر وارث المنزل رقم 12، منذ عقدين أن يغلق باب تلك الغرفة، التي كانت سجنا للأخ المجنون، فوضع فوق بابها كميات كبيرة من الخرسانة!.. بعد أن اعترف من لم يفقد حياته و لا عقله من المستأجرين أن تلك الغرفة بالذات تحوي سرّا مرعبا.. إذ يُسمع ببابها ليلا صوت قرع عنيف حتى يتوقعون أن ينخلع الباب من مكانه !.. ثم أصوات خدش بالأظافر و عويل تقشعرّ له الأبدان !..
و تخلّى بعد ذلك صاحب المنزل 12 عن ملكيته.. فخلى المنزل من السكان و الأثاث و من كل شيء.. ما عدا ذلك البيت بالطابق العلوي و الذي لم يجرأ أحدهم على دخوله ليفرغ ما به من أثاث.. وبقي بآخر رواق الطابق العلوي.. غامضا، رهيبا.. و قد غُطّي بابه بطبقة سميكة من الخرسانة..
دُفن و به السرّ الذي بقي مجهولا حتى تلك الليلة من شتاء سنة 1985!..
* * *
ركنَ القطار أخيرا بعد أن أصدرَ صريرا..
انفتح الباب الحديدي على مصراعيه، فظهرت وجوه متوترة جدّية، عيونها تبحث عن شيء ما !..
و حين انقشع الزحام و خفت كثافة الأنام.. ظهر شابان فارعا الطول، جميلا الهندام.. تبدو جليّة على محيّاهما إمارات الشباب و الحيوية و كثرة الكلام..
في ذلك المسـاء كان الجو غائما.. إذ اقتربت السحب الرمادية المبعثرة و امتزجت لترسم سماء كئيبة، تنذر بغضب الرياح..
* * *
دلف الشابان إلى بار في مؤخرة زقاق مظلم.. كانت الساعة وقتها تشير إلى الثامنة ليلا..
.
.
الحادية عشرة و النصف.. صوت ضحكات مدوّية بالمكان.. خرج الشابان و هما يترنحان من فرط السكر.. يصطدمان ببعضهما ثم بجدران الزقاق المظلمة..
انتبها إلى أن السماء ترسل خيوطا من الماء البارد.. صرخ أحدهما و هو يرفع رأسه إلى السماء، و قهقه الآخر بعد أن ركل صاحبه على مؤخرته..
أدخل (هشام) يده بجيبه و أخرج باطنه بسخرية، كتعبير على نفاذ النقود لديه !..
قام الآخر بنفس العملية ليسترسلا في ضحك عالي..
قال (جمال) و هو يجول مع رفيقه بشوارع المدينة شبه الفارغة:
- تبا لتلك المومسات !.. لقد سرقن كل ما تبقى معي من المال..
أجابه (هشام) و هو لم يزل يقهقه بصوته الرقيق:
- أما أنا فأعطيته لهن عن طيب خاطر... هاهاها..
* * *
وصلا أخيرا، بعد أن تاها بأحياء المدينة المتشعّبة، إلى فنـاء رحب، كُتب على لافتة بمدخله "سـاحة القرويين" !..
كان الوقت قد جاوز منتصف الليل، فخلت الشوارع و أُغلقت الدكاكين و أوت القطط إلى مضاجعها و طارت العصافير إلى أعشاشها..
قلّب (هشام) كفيه في انعدام حيلة و قال..
- البرد و الشتاء و لا مكان نلقي فيه جسدينا المنهكين !..
قد بدأ أثر الخمر يزول عن ذهنيهما شيئا فشيئا لما أحسا بحجم المصيبة التي يواجهانها..
لم يجبه (جمال) و إنما أشار بأصبعه إلى مكان ما قائلا:
- أ ترى ذلك المنزل هناك ؟.. إنه يبدو مهجورا..
- نعم أراه.. ما به ؟
- ما رأيك لو..
- أجننت.. نبيت هناك ؟.. ألا ترى النوافذ المكسورة !.. و الحائط العتيق ؟!.. ثم أنظر إلى تلك الكتابة "رقم 12 " !.. و كأنها تعود لعهد الرومان !..
- إنه الحل الوحيد يا أبله.. ماذا نفعل ؟.. أنحشر أنفسنا في سطلي قمامة مثلا ؟.. أم ننام على أغصان شجرة ؟..
- لماذا لا تقول نطرق الأبواب و نطلب المبيت ؟..
- يا لسذاجتك !.. أتظن أن أحدا يرغب باستضافة سكيران، تائهان مع منتصف الليل و المطر يقصف الأرض قصفا ؟..
بدا و كأن (هشام- لا أدري لماذا لم أرتح كثيرا لهذا المكان ؟.. إنه يجعل أطرافي ترتعد و أنفاسي ترتعش !..
* * *
تقلب (جمال) في مكانه و هو يواصل شخيره المزعج ثم رفع رأسه فجأة !..
كان شيء ما يخزه بظهره !..
فرك عينيه بتوتر و رأى في مشهد ضبابي صديقه يحمل شمعة و يتمتم بكلمات غير مسموعة !..
- ما بك يا أحمق ؟!.. لماذا تطعنني بأصبعك النحيف ؟..
قالها (جمال) مكشّرا عن أسنانه من فرط الغضب..
لم يجبه (هشام- ألم تلاحظ شيئا غريبا هنا ؟..
* * *
سـاد الظلام و أقام الصمت..
يبدو أن الخطوات قد توقفت !..
استنشقا رائحة الشمع و استرقا السمع..
بلع أحدهما ريقه بصوت مسموع..
و فجأة.. و بدون مقدمات سمعا أنينا تلاه صوت ركض.. ثم.. !..
* * *
- إنه يبدو واثقا من نفسه للغاية !..
* * *
رأيا ظلا يتجاوز عتبة الباب بسرعة البرق !..
ارتفعت دقّات قلبيهما و شهق أحدهما شهقة حادة و كأن قلبه انفجر !..
أراد (هشام- أ ترى ذلك المنزل هناك ؟.. إنه يبدو مهجورا..
* * *
كــان يبدو أطول من اللاّزم !..
ليس واضحا بما فيه الكفاية و لكنهما رأيا...
ساقاه النحيفتان و المقوّستان.. كأن ليس بهما عظم !.. عليهما لحم مترهّل كأنه مسلوق !!..
ثم يداه الطويلتان وقد جاوزا الركبتين.. يكسوهما نفس اللحم المتراخي !.. مع بعض الأصابع المبتورة !؟..
كان هذا كل ما تمكنا من رؤيته، و قد كان كافيا ليجعل عموديهما الفقريين يرتعشان بعنف و تسري بعروقهما صعقة تشلّ جسميهما !..
و كانت الحركة المباغتة التالية.. أن قفز أحدهما من السرير صارخا و قد فقد صوابه تماما !..
* * *
لم يجبه (هشام)
* * *
و قد كان هذا (هشام) كان الوقت قد جاوز منتصف الليل، فخلت الشوارع و أُغلقت الدكاكين و أوت القطط إلى مضاجعها و طارت العصافير إلى أعشاشها..
* * *
بدأ عقله يعمل أخيرا بعد أن تخدّر تخديرا..
و فور أن تبلورت فكرة ما بذهنه حتى نفذها بطريقة آلية..
إذ وثب من السرير وثبة لا تُصدّق و ركض كالمجنون باتجاه عتبة الباب التي بالكاد يراها !..
ثم سرعان ما وجد نفسه يقفز في الدرجات قفزا و هو يحاول تمييز نهاياتها بصعوبة..
لاهثا، مُبعثر التركيز، حافي القدمين و قد انغرست أسفلهما قطع من الزجاج المتناثر في كل مكان..
و ارتفع صُراخ (هشامنظر (هشام) بجنبيه و شعر و كأنه وحيد.. و كأنه لا مفر له من شيء ما !.. و كأن !!...
* * *
وصل إلى الطابق الأول.. لا يكاد يرى موضع قدميه لشدة سواد المكان و لكنه مازال يواصل عدوه المحموم.. لا يخطر بباله خاطر و لا تُثيره رغبة من الرغبات.. سوى رغبة الخروج من جحيم الرعب الذي تورّط فيه !..
زلّت قدماه على حين غرّة في درجة من الدرجات (الوهمية) التي يقفز بها.. فسقط و اندفع جسمه بعنف ليتدحرج بسرعة مُخيفة و يرتطم بالجدار تارة و تارة أخرى يصطدم رأسه بالحديد الذي يحدّ السلم.. فتصدر إثر ذلك فرقعة مروّعة !..
ثم استقر جسمه أخيرا على أرضية السّفلي..
* * *
غريب !.. مع أن هذا الحي مأهول بالسكان ؟..
* * *
سكنت حركاته و شُلّت أطرافه.. و بقي لُهاثه الرتيب يُسمع في جوف الظلام..
أحسّ بسائل دافئ يسيل على جبهته ففهم أنه الدم.. فقد تلقّى رأسه ضربات مؤلمة و هو يتدحرج بالسلم..
حاول فتح جفنيه بصعوبة و لكنهما كانا ينغلقان رغما عنه.. فأدرك برعب أنه سيفارق وعيه عمّا قريب !..
و لم يكن ليتحرك أو يرفع رأسه قيد أنملة لولا أن سمع صرخة مدوّية بالأعلى.. صرخة يعرف صاحبها جيدا !..
فثار بركان الرعب بأحشائه من جديد و أنّ بشدة و هو ينتصب على قدميه..
و لما رمى خطوة واحدة التوت رجلاه و سقط بعنف.. فهوى وجهه على بقعة الدماء التي خلّفها جُرح رأسه !..
و صرخ مُتألما و هو يمسك ساقه اليمنى... يبدو أنها قد كُسرت !..
* * *
و منهم من فقد عقله تماما..
* * *
نهض مزمجرا و أسنانه تصطك من شدة التوتر.. عرج جارا ساقه المكسورة باتجاه النافذة التي حطّمها و صديقه قبل دخولهما إلى هذا المكان الملعون !...
وقف أمامها لحظة قبل أن يضع يداه على حافتها ثم يرفع جسده بجُهد جهيد.. و يُلقي بنفسه إلى الخارج!
* * *
- سأنام.. و في الغد يمكنني مساعدتك في اكتشافك المهم !.. طابت ليلتك.
* * *
كان يعرج بشكل مخيف تحت المطر الغزير و هو يزفر زفيرا حادا.. و خيوط المطر تضرب على رأسه المجروح كالإبر الصغيرة !..
فاختلطت قطرات الماء البارد على وجنتيه بدموعه الدافئة التي تسكبها عيناه..
و هو يفكر بمصير صديقه المسكين !..
ولم يزل على هذا الحال.. حتى رأى بطرف عينه شخصا يستند إلى حائط هناك.. يضع يديه بجيبيه و بفمه نصف سيجارة مشتعلة..
قصده دون أن يفكر ثانية.. فكاد الآخر يفرّ رعبا من طريقة مشيه و لُهاثه و منظر رأسه الدامي !..
و لكن (جمال) توقف و ناداه متوسلا ثم أشار إلى خلفه و هو يبكي بصوت مرتفع !..
بقي الرجل لبرهة حائرا ينظر باستغراب إلى (جمـال) قبل أن يقترب منه بحذر و على وجهه إمارات الاستفسار و الاستفهام !..
كان (جمال) يتحدث بسرعة و عصبية و صوته يُخالطه النياح..
و لما أعرب الرجل عن عدم فهمه لما يحاول (جمال) تفسيره.. وفي هذه اللحظة بالذات سمعا صرخة رعب طويلة ورائهما..
ثم طارت عصافير سوداء من أسطح المنازل !..
* * *
أجابه (هشام) و هو لم يزل يقهقه بصوته الرقيق:
- أما أنا فأعطيته لهن عن طيب خاطر... هاهاها..
* * *
و لم يكد أحدهما يلتفتُ ورائه حتى دوّى بالمكان صوت تكسّر زجاج.. ثم اندفع جسم من نافذة بالطابق العلوي لمنزل في نهاية الحي.. ليسقط بعنف مع شظايا الزجاج على قارعة الطريق !!..
تمتم الرجل الغريب برعب:
- أتقصد المنزل رقم 12 ؟!..
ثم فرّ هاربا !...
* * *
و أكثر من مرة وُجدت بالمنزل جثث هامدة على وجوه أصحابها أعتا علامات الرُّعب !..
* * *
لم يُصدّق (جمال) ما رأته عيناه.. و بقي متسمرا مكانه..
هو الذي كان يجري برِجل مكسورة حتى يطلب النجدة لصديقه المسكين !..
صديقُ الطفولة.. ذلك الشاب المرح، الذكي.. الذي أحسّ بالخطر مُسبقا !..
بكى بحرقة و هو يجر رجله إلى المكان اللعين.. متغلبا على رعبه و منتصرا على رغبة الفرار التي تتملكه..
ثم وصل أسفل النافذة..
انحنى على جثة صديقه و هاله التواء أطرافه البشع !.. فسكب المزيد من العبرات..
و لكن ما أخافه و جعله يبتعد مُسرعا.. آسفا على خيانة صديقه و عدم مساندته في تلك اللحظة الحرجة.. ما أشعل الرعب في صدره مرة أخرى و أثار غريزة الذعر لديه.. هو عيناه !.. اللّتان خرجتا من مقلتيهما تماما !؟!...
فماذا رأتا أكثر مما رأى ؟؟..